القائمة الرئيسية

الصفحات

دراسة: المعجم الأمازيغي للمصطلحات الفنية التقليدية: مقاربة تاريخية ودياكرونية *

 


دراسة: المعجم الأمازيغي للمصطلحات الفنية التقليدية: مقاربة تاريخية ودياكرونية *

         نقدم لكم في "ثيموزغا" هذا المقتطف من مسودة مشروع دراسة للأستاذ الباحث سفيان الهاني، والذي وافق على نشر هذه المقتطفات على صفحات "ثيموزغا". وقد اختار لها عنوان: "المعجم الأمازيغي للمصطلحات الفنية التقليدية (مقاربة تاريخية ودياكرونية لـ 250 مصطلحا فنيا)". وتجدر الإشارة إلى أن هذه الدراسة مازالت قيد المراجعة والتحيين.

________________

 (...)                تحتفظ الألسن الأمازيغية اليوم بألفاظ، تعود في تقديرنا إلى زمن التأثير الفينيقي الأول على ألسن الحواضر الشمال-إفريقية كما أسلفنا، إنها كل من فعل "εeyyeṭ"  ومرادفه اللسني "εeyyeḍ") وفعل "heyyeṭ" (ومرادفه اللسني "heyyeḍ") وفعل "ɣeyyeṭ" (ومرادفه اللسني "ɣeyyeḍ") وفعل "heyyet". وهي مشتقة جميعها من الجذر اللغوي YT المتطور، هو ونظيره WT ، من الجذر T الذي يحيل، في معناه الإتيمولوجي الأمازيغي الأول، على "الضرب"، قبل أن يحمل في مسيرته التطورية الدلالية دلالة "العزف"، أي دلالة الضرب على الآلات الموسيقية البدائية الصادرة للإيقاع والصوت بالضرب، قبل أن يستقل بمعناه الذي يحيل على العزف على الآلات الموسيقية أكانت تتطلب الضرب أم استعمال الأصابع في العزف على الآلات الوترية غير المتطلبة للضرب، قبل أن تنتهي أخيرا إلى إحالتها على الإيقاع.

         ولتوضيح هذه التطورات الاشتقاقية الجذرية، ومن خلالها معانيها الدلالية المستجيبة عبر سيرورة زمنية للتطورات الثقافية والحضارية الحاصلة في السياق الأمازيغي زمنا بعد زمن، لابد من التذكير بأن الجذر اللغوي T الأمازيغي يعد أحد الجذور اللغوية القديمة الشاهدة على تطور الظاهرة الموسيقية البدائية في المجتمعات الشمال-إفريقية القديمة.

      وإذا كان الجذر اللغوي T يحيل في معناه الأول على الضرب بوصفه فعلا ماديا، ففي مرحلة متطورة لفكر أسلاف الأمازيغيين اتخذ منحى آخر في تطوراته الدلالية ليحيل على "ضرب محسوس غير مادي" بالمعنى الذي يحيل على فعل المس الذي تحدثه قوى غير مرئية خارج الذات الإنسانية، وهكذا ستعرف لغة أسلاف الأمازيغيين التي أخذت في التطور النسبي، وقتئد، سياقات دلالية جديدة مازالت تلقي بظلالها على الألسن الأمازيغية المعاصرة، وهي: Tewta ay dd rfiqet المتحولة في الدوارج المغاربية إلى "ضرباتني الفيقة" (استفقت من نوم)، وهي تكشف عن اعتقاد أسلاف الأمازيغيين بتمثيل الاستيقاظ معطى خارجا عن الذات الإنسانية، فمثلما يستيقظ المرء على صدى أصوات مزعجة خارجة عن ذاته، كذلك الأمر بالنسبة إلى استيقاظه من تلقاء نفسه، وكأنه بذلك يتقاطع مع الاعتقاد الاسلامي المسبح لله على إحيائه الروح بعدما أماتها، ونعني بذلك امتلاك قوى خارجية، مرئية وغير مرئية، لسلطة الإيقاظ، وفضلا على ذلك تحضر في التعبير الوحدة اللغوية dd الدالة على قدوم فعل الإيقاظ من جهة صوب ضمير المتكلم   ay.

         ثمة تعبير أمازيغي آخر هو "wtiɣ tt s yiḍeṣ" المتحول في السياق الدارجي إلى "ضربتها بنعسة" (خلدت إلى النوم)، وإذا كانت سلطة الإيقاظ بيد قوى خارجة عن الذات الإنسانية، فإن سلطة الخلود إلى النوم هي، على العكس من الإيقاظ، بيد الذات الإنسانية التي تقصد النوم قصدا.

          أحد التعبيرات الأمازيغية الأخرى الدالة على امتلاك قوى غير مرئية لسلطة "الضرب المحسوس" (المس)، هو Wtin t jjnun ، المتحول بدوره إلى الدوارج المغاربية في صيغة "ضربوه جنون" (مسه الجن)، ولا يخرج التعبير عن سياق امتلاك قوى غير مرئية لسلطة "الضرب المحسوس" (المس) باعتبارها قوى خارجة عن الذات الإنسانية.

        ولا ننسى تعبيرا أمازيغيا يضرب بجذوره في أعماق التاريخ الأعلى لأسلاف الأمازيغيين، يحيل على امتلاك قوى غيبية لسلطة إنزال المطر، إنه "iwta unẓaṛ" المتحول إلى الدوارج المغاربية في صيغة "ضربات شتا" (هطل المطر). ويكشف حضور فعل الضرب في سياق هطول المطر عن اعتقاد أسلاف الأمازيغيين بوجود قوة خارجية مسؤولة على إنزال المطر، وهو الإله أنزار كما وجدنا عند معظم المجتمعات الأمازيغية الزراعية المعاصرة.

         والشواهد اللغوية كثيرة في هذا الباب، لا يسمح المقام بذكرها، ولعل في اكتفائنا بما سلف هو ما نجده فيها من فائدة في تمييزها المستويين المادي والمحسوس لفعل الضرب في السياق الأمازيغي. ونضيف أن الدلالات البدائية لاستعمال فعل الضرب عند الحد الذي ينقله من مستوى مادي إلى آخر محسوس، تتجاوزه لتحيل على فعلين متضادين هما: فعل "النسيان" الذي يحيل عليه الجذر اللغوي T من خلال فعل ttu الأمازيغي المشتق منه؛ وفعل "التذكر" الذي يحيل عليه الجذر اللغوي KT المتطور من الجذر اللغوي YT، المتطور بدوره من الجذر T، كأن نجد فعل "ktu"  ( تذكر). وهاتان الحمولتان تحيلان في بدائيتهما على أن فعلي التذكر والنسيان معطيان خارجان عن قوى الإنسان، ومن ثم هنالك قوة خارج الذات الإنسانية مسؤولة على تذكره ونسيانه، وهذا يفسر سبب تضرع المجتمعات الأمازيغية القديمة والمعاصرة إلى السماء طلبا للمقدرة على النسيان والتذكر حين يبعث هذان الأخيران على استفزاز الذاكرة.

          ومن المثير، أخيرا، أن كلمة "موت" ونظيرها فعل mmut ) مات) بدورهما مشتقان من الجذر اللغوي T، مضاف إليه m الدالة على فعل مجهول الفاعل، ليحيل حرفيا على فعل الضرب الذي تتلقاه الذات الإنسانية من قوى خارجة عنها تؤدي بها إلى الهلاك. ومثلما رأينا مع دلالة الضرب في سياق امتلاك قوى خارجية لفعل إيقاظ المرء وكذا امتلاكها تذكيره والتسبب في نسيانه، كذلك الأمر بالنسبة إلى الموت، إذ التصور البدائي لأسلاف الأمازيغيين كان يرى في الضرب وسيلة مؤدية إلى موت محقق. ومن الشواهد اللغوية على حضور المضاف m في السياق اللغوي الأمازيغي، نستدعي فعل immeksi  "أخذ" في صيغة المبني للمجهول) المشتق من فعل iksi (أخذ)، وكذا فعل immenḍaṛ "رمى" في صيغة المبني للمجهول المشتق من فعل nḍaṛ (رمى)، وغيرها كثير لا يسع المجال لذكرها جميعها. ومن المثير أن الألسن الأمازيغية تشترك جميعها في استعمال "فعل الضرب" للدلالة على الفعل المؤدي للموت (القتل)، ويمكن التركيز على ثلاثة شواهد لغوية مختلفة الوسائل المؤدية للموت: "iwti t s uxedmi" (ضربه بالسيف)، و"iwti s uqertas" )ضربه بالرصاص)، و"iwti t s ṭṭumubin" )  ضربه بالسيارة(.

     نحن، هاهنا، إزاء فعل الضرب في مستوييه المادي والمحسوس، فماذا يبقى من المعاني اللغوية والاصطلاحية لفعل الضرب في اللغة الأمازيغية؟

     إن المتتبع للظاهرة الموسيقية الأمازيغية ليكشف عن حضور وازن لفعل "الضرب" في المصطلحية الفنية الأمازيغية في الدلالة على العزف على آلات الضرب الموسيقية (الدف، الطبل...)، ومن الشواهد اللغوية على ذلك نذكر: Iwta allun )ضرب الدف) و"iccat allun" ) يضرب الدف)، وإذا كانت دلالة العزف على آلات الضرب الموسيقية مفهومة بالنظر إلى الضرب الذي تتطلبه الآلات من الموسيقي العازف، فالمثير في الاستعمال الاصطلاحي الفني له هو انزياحه إلى الدلالة على العزف، بصرف النظر عن وجود آلات الضرب الموسيقية، وهو ما يكشف عنه سياق استعماله للدلالة على العزف على الآلات الوترية التي تتطلب استعمال الأصابع في فعل العزف عليها، ومن ذلك "iccat giṭaṛa" )حرفيا، يضرب القيثار؛ واصطلاحا، يعزف على القيثار(.

         لكن هذا "الضرب" يختلف في الاصطلاح الفني من حيث الخفة والثقل، أي من حيث قوة الصوت وعذوبته، من جهة؛ ومن حيث مرافقة الغناء للآلة الموسيقية الوترية، من جهة أخرى. وإذا كان لفعل الضرب ewt سياق دلالي يتعلق بهطول المطر بوصفه فعلا لسلطة خارجية غير مرئية، كما رأينا، كأن نقول iccat unẓaṛ (يهطل المطر بغزارة)، فمن المثير أن هنالك فعلا آخر مرادفا "للضرب" الدال على هطول المطر بخفة تبعث إيقاعات أو رنات عذبة، إنه الفعل "isniqqit" أو "ismiqqit" الذي يحيل على هطول المطر الخفيف، كأن نقول isniqqit unẓaṛ (يهطل المطر خفيفا(.

           ويميز الاصطلاح الفني بصورة مثيرة، في سياق العزف على الآلات الوترية، بين فعلي ewt وneqqeṭ من حيث قوة الصوت التي تصدرها وعذوبته، أي من حيث ثقل صوتها وخفته. وإذا كان السياق اللغوي العام يستعمل فعل ewt في سياق ثقل تساقط المطر، أي قوته وغزارته وصخبه، واستعماله فعل sniqqet في سياق خفة تساقط المطر، أي عذوبته، فإن الاصطلاح الفني، في سياق العزف على الآلات الوترية، يستعمل فعل ewt في سياق حضور ثقل الصوت الذي تصدره الآلات الوترية مرفوقا بالغناء، كأن نقول iccat  giṭaṛa )يصدر أصوات قوية من القيثار وهي مرفوقة بالغناء)، ويتماشى هذا مع قوة الصوت الذي يصدره المطر الغزير؛ في حين يستعمل فعل neqqeṭ في سياق عذوبة الصوت التي تصدرها الآلات الوترية للدلالة على عزف منفرد تكون فيه الكلمة للأوتار وليس الغناء، كأن نقول ittneqqiṭ gi lεud ines (يعزف على أوتار عوده مصدرا رنات خفيفة وعذبة غير مرفوقة بالغناء)، وإذا رافق الغناء تلك الآلات الموسيقية فدلالة العزف يمثله حينها فعل ewt وليس neqqeṭ.

        كذلك لا ننسى، أننا وقفنا، ونحن نقرأ للباحث الحسين المجاهد مقالته "أمارك" المنشورة كمادة ضمن مواد الجزء الثاني ل"معلمة المغرب"، عند مصطلح أمازيغي يتداول بحمولته الدالة على "وحدات صوتية من مقطع واحد يتشكل منها القالب الإيقاعي والعروضي، الذي تقولب فيه الوحدات المعجمية المكونة للبيت". يتعلق الأمر، ههنا، بمصطلح ttiyt الذي يجمع على ttiyat، المشتق من الجذر YT المتطور من الجذر اللغوي T الدال على الضرب في معناه الدلالي الأول. وتذكرنا إحالة فعل الضرب على "الوحدات الصوتية" ههنا بالمصطلح الذي دل به الفنان ميمون الوليد على "المقطع اللفظي" في اللازمة الغنائية الريفية، وهو مصطلح "نقرات إيقاعية على آلة البندير (أدجون)"، حيث يقول: "...وكل بيت شعري (إزري) يتكون من أربعة أشطر ويمكن وزنها بالتفعيلة المعروفة في الريف (أيا رالا يارل أيارلا بويا). وتنقسم إلى شطرين، الأول يحتوي على ست نقرات إيقاعية على آلة البندير (أدجون)...". والنقرات على البندير، ههنا، يعبر عنها في الريف بمصطلح "tiyyita" (جمع tiyti)؛ لغة تعني "ضربات"، واصطلاحا تعني المقاطع اللفظية أو الإيقاعية عند ميمون الوليد.

       ولا تتوقف دلالة العزف في المصطلحية الفنية الأمازيغية عند فعل الضرب ewt / ut، المشتق من الجذر اللغوي T، بل ويتجاوزه إلى مرادف آخر له هو فعل idiz، أو مرادفه اللسني ddez المتطور منه، وهما معا يحيلان على فعل الضرب الذي يدك الأشياء ويحدث صوتا عبارة عن دقات. وقد سلك هذا الفعل نفس ما سلكه نظيره ewt، ومن النتائج الإيجابية لسلكه ذلك أنه بعد أن اشتق منه اسم فاعل ameddaz للدلالة على الضارب، تحور منه مصطلح دال على العازف الضارب على آلات الضرب الموسيقية (الدف، الطبل...)، وهو amedyaz، ولكن حمولته الدلالية ستتطور لتتجاوز معناه اللغوي الذي يحيل على الضارب (على آلات الضرب الموسيقية) إلى معنى اصطلاحي يحيل على العازف والمغني والشاعر، وباكتساب amedyaz هذه الحمولة، سيشتق فعل dyez الذي سيحيل على "فعل صناعة الشعر وامتهانه" وكذا على "فعل التغني". ومع ظهور الجذر اللغوي DYZ المتطور من الجذر اللغوي DZ مع ظهور مصطلح amedyaz وفعل dyez، واكتسابه حمولة دالة على التغني وصناعة الشعر، ستتوسع آفاقه ليعطينا مصطلح tamedyazt الذي يحيل في أمازيغية منطقة الأطلس المتوسط على القصيدة، ومصطلح tumedyezt الذي يحيل في أمازيغية الريف على مهنة أو حرفة الشعر. وسيتبنى المعجماتي الأمازيغي الراحل مولود معمري في معجمه الأمازيغي الحديث مصطلح tamedyazt بمعناه الذي يحيل على "قصيدة" والذي سيعرف شيوعا لا نظير له في صفوف الكتاب والباحثين الأمازيغيين. وبالنظر إلى ما يثيره مصطلح tamedyazt من لبس دلالي، وبخاصة وأنه يحيل كذلك على الشاعرة والراقصة والمغنية المنضوية تحت لواء مجموعة إمذيازن الموسيقية، فإن الجمعية الثقافية إمديازن القبايلية قدمت، في شخص ممثلها عمر موفوك، مقترحا يصب في استعمال مصطلح tamedyezt، يجمع على timedyaz، بدلا من السالف الذكر. ولا ننسى كذلك ظهور مصطلح tadyazt الدال على شعر كجنس أدبي مع تطور النقاش العلمي حول الأجناسية والأنماطية الأدبية الأمازيغية . (...)

*بقلم سفيان الهاني


تعليقات

التنقل السريع