![]() |
| لوحة بريشة الفنان عبد القادر السكاكي |
أنواع وخصوصية الرقصات بمنطقة
الريف (الجزء الثالث)
بقلم الأستاذ محمد قروق كركيش
المحور الثالث : أنواع الرقصات الريفية بشمال المغرب
إن الغناء والرقص ومختلف الفنون ملتصقة
بحـياة الأمازيغ بصفة عامة وحركاتهم ومناشطهم الحياتية كلها، مما جعــلها في نفس
الوقت مشحونة بالدلالة قوية المعنى عميقة المضمون، وتعبر عن مضاربها المختلفة
المادية والروحية والعاطفية تعبيرا أمينا،ورفع قدرتها على الأداء والتبليغ إلى
مستوى الأمانة والدقة والأصالة، كل هذا أضفى عليها طابعها الشعبي ومنحها الفطرية الجميلة
وقوتها المؤثرة الساحرة .
ولما ارتبــط الرقص بالموسيقى في الريف والشرق
المغربي، كان لهذه الموسيقى كبير الأثر على أنماط الرقص بالمنطقة ، فنجد الـفنان
الأمازيغي اقترن إيقاعيا وعروضيا ونغميا بشعر " لالابويا أو ازران بويا
" ، إن من أهم الخصائص التي تميز بها الرقص كما سلف الذكر، الموسيقى والغناء،
لذلك تعددت فنون الرقص بحسب المناسبات الاحتفالية والموسمية التي تتعلق بالقبائل .
1- رقصة " إمذيازن " :
فإذا كانت رقصات أحواش و أحيدوس قد ظهرت
بالأطلس الكبير والمتوسط، فإن رقصة ”إمذيازان” ظهرت بمنطقة الريف انسجاما مع
المقاومة الريفية وشعر النضال والاستماتة، ويسمى الذي يمارس هذا النوع من الرقص ”أمذياز” (الفنان)، بينما المرأة تسمى “ثامذيازت”(الفنانة)، ويعني هذا المصطلح أن
أمذياز فنان راقص ومبدع شاعر يتميز بخفة الحركة وحسن اللسان ، ومفردها إمذياز وهم
جماعة من العازفين الذين كانوا يجوبون القرى والمداشر والأحياء باحثين عن مناسبات
الفرح ليقدموا رقصاتهم وأغانيهم قصد الترويح عن النفس والترفيه، وقد ارتبطت صورة ” أمذياز” في كثير من الأحيان بالرجل
الخامل والفنان المتكسب المتملق، كما تقترن صورة تامذيازت بالميوعة والخلاعة
والدناءة الأخلاقية في مختلف القبائل الريفية، حيث ارتبطت بالكسب؛ لأنها تستثير
عواطف الحضور، ولاسيما في الحفلات والأعراس والمناسبات الوطنية والولائم ومما زاد
الطين بلة، أن تراجعت مكانة إمذيازان كثيرا في منطقة الريف في السنوات الأخيرة، وهمش
فنهم تهميشا كبيرا، واستبدل بالفنون الغنائية العربية و الأمازيغية المعاصرة.
وتنتشر
ظاهرة “ إمذيازان ” في كثير من قبائل ومدن الريف
كتمسمان، وبني توزين، وقبائل قلعية، وبني ورياغل وترتبط رقصة ” إمذيازان” بقصائد ” لالابويا” وأشعار الحي والهوى والعشق والمجون،
كما تقتصر هذه الرقصة على إمذيازان وثمذيازين والإناث الشابات . ويعرف الرقص في
منطقة الريف بمفهومه العام حسب الباحث الأمريكي ’’داﭭيد مونتگمري هارت’’ : "
نوعين أساسيين من الحركة ومرحلتين متميزتين هما: أيارا لا بويا التي تتحرك خلالها
الفتيات بشكل دائري في اتجاه عقارب الساعة أو عكس هذا الاتجاه، و أشظيح ، فالأول
يتميز بثني خفيف للركبتين يكاد لا يبدو للعيان، أما في المرحلة الثانية فإن هذه
الدائرة تنفتح تدريجيا لتصبح عبارة عن صف متعرج من الفتيات اللواتي يحركن أجسامهن
بشكل جماعي متناسق على مستوى الخصر والصدر، مع تحريك شديد وسريع للجزء العلوي من
الجسم خلال فترات محددة ووقفات منتظمة، وتحتفظ فتاتان فقط بدفيهما خلال هذه
المرحلة، في حين تضعها الأخريات جانبا، ويأخذن بدلها مناديل الرأس التي يربطنها
حول خصورهن، حيث تسمح لهن بضبط إيقاع الحركة من جهة، أما أشظيح فيتميز بسرعة إيقاع
مضاعفة مقارنة مع أيارا لابويا ، وقد يرافقه ضرب على الدفوف من طرف شاب أو اثنين
من المتفرجين أو من طرف إمذيازن، أي الموسيقيين المحترفين، وما يبرز خلال هذه
المرحلة هو موسيقى الضرب على الدفوف وحركات الجسم المتناسقة في غياب تام للغناء
" .
ويكون هذا الرقص جماعيا بحيث يصعب على أي
فتاة أن تقوم بحركة مغايرة للحركة الجماعية، " غير أنه قد يحدث أن تنسل إحدى
الراقصات، وهو أمر نادر على أية حال، لتبتعد عن المجموعة ولتظهر مهارتها الشخصية،
لكن سرعان ما تفرض المجموعة نفسها على الثائرة، كما يقول ’’بلانكو’’، وتلغي فردانيتها التي تعمدت إبرازها
خلال تلك الفترة القصيرة ".
والراقصين في إمذيازن يمتازون بلباس تقليدي
وأهمها الجلباب الأبيض الذي كان يلبس فوق أقمصة بيضاء، وتحته يرتدي سروالا ضيقا في
الأسفل يطلق عليه سروال ( قندريسي )، أما الحذاء فيكون من نوع حداء الكولف التقليدي
في حالة تعذر هذا النوع يلبس إمذيازن حداء عادي، ويضع عمامة في رأسه تسمى الرزة
وهي عصابة تحبك دوائرها الكثيرة فوق الرأس، وغالبا ما يعلق على كثفه محفظة صغيرة
تسمى الزعبولة، وهي بالإضافة إلى وظيفة التزيين تلعب وظيفة حركية أثناء الرقص خصوصا
وأنها تقع فوق جانب الخصر .
ويستعمل ” إمذيازان” الدف والغيطة والمزمار الزمار ،
والناي ثامجا في تقديم رقصاتهم الإيقاعية التي تؤديها جماعة من الراقصين والراقصات
في شكل تناوبي، فينقسمون إلى فرقتين، فيتم تشكيل عدة أشكال هندسية مدا وجزرا عن
طريق التقابل والتماثل والاستواء والدوران، مع ضرب الأرض ضربات معدودة انسجاما مع
نغمات الأشعار وطلقات البارود، وغالبا ما يقود هؤلاء الراقصين والراقصات شيخ ” مايسترو” له تجربة ودربة كبيرة في مجال
الرقص والغناء كالشيخ موسى بالنسبة لجماعة ” إمذيازن” القاطنين بمدينة الناظور.
2- رقصة الركادة :
الركادة رقصة حربية تنتمي إلى الريف ( بني
يزناسن ) والمنطقة الشرقية برمتها، وهي حسب بعض الباحثين رقصة خالصة لها مميزاتها
الخاصة، كما يسير البعض إلى القول أنها رقصة عامة تضم مجموعة من أشكال الرقص؛
ويطلق على نوع منه الاسم الأمازيغي إمذيازن – التي سلف ذكرها - ، وبصفة عامة
فإن رقصة الركادة تنتمي إلى أصلها الشرقي مع الحدود الجزائرية لتنتقل فيما بعض إلى
الريف الشمالي عن طريق الحروب والمناوشات الحربية ضد المستعمر، ويطلق على ممارسي
هذا النوع من الرقص العرفة وهم في الأصل عائلة عريقة من الشيوخ في الريف قاطبة ،
ورقص العرفة رمز للمحاربين ، وزمنها يكون أثناء التغلب على العدو؛ فهي تجسد النصر،
ويكون على يد الراقصين في الركادة بندقيات التي قد تعوض بالعصي عندما لا تتوفر
البنادق، كما يضربون الأرض بأرجلهم كعلامة على الانتماء للأرض ويحركون أكتافهم وفق
عمليات حسابية وحركية مضبوطة إيقاعيا بمساعدة المزمار المزين بقرون الثور، والنوع
الأخر يسمى الكصبة وقد أشار إليها ’’ بول بولز ’’ في كتابه " أياديهم الزرقاء
" ، ويعتد هذا الرقص على الكلام و المجون مرافقا بالغيطة و الطامجا ، و رقص
الركادة ضرب من ضروب الموسيقى العريقة وأقدمها يبدأ بلازمة " كاع كاع
أزبيدة" وهي أغنية حسب البعض تتغنى بأسطورة قديمة جدا - أسطورة الكاهنة - .
هكذا يتم الرقص المرافق للغناء الشجي
والطروب في شكل زجل ينظم على إيقاعات الركادة، حيث كان العمال ذكورا وإناثا في
المزارع والحقول ومكان العمل يرقصن ويتغنون بالخصوبة والأفراح، وتتميز الركادة
بالعفة والوقار والحشمة في الريف الشمالي، ولا يمكن لأي واحد من الراقصين – سواء ذكور أو إناثا – أن يمتهن هذا الرقص لأنه يكون
مرتجلا وعفويا، ولا يسمح في قبائل الريف بامتهان الغناء أو الرقص لأن ذلك ضرب من
الفساد .
3- رقصات المواسم والزواج (
الأهازيج ) :
غالبا ما تجتمع العائلات الريفية مرتين أو
أكثر في السنة على إثر إقامة حفلات الزواج أو العقيقة أو في المواسم الدينية، أو
غيرها من المناسبات التي تبرز فيها الأهازيج بشكل أساسي، ويعتبر هذا النوع لحد
الآن صورة فلكلورية ريفية بالدرجة الأولى حيث تجتمع النساء والرجال مكونين صفين
متقابلين، يقف الصف الأول في وسط دائرة مرسومة اعتباطيا ، في حين يتراجع الثاني
إلى الوراء ببطئ على إيقاعات " أدجون " وصولا إلى أقصى الوراء ثم يعود
إلى وضعه السابق بالوسط على إيقاعات مغايرة للأولى، فينحني الجميع على ركبتهم
اليمنى ليأخذ المبادرة الصف الأول معيدا نفس العملية على إيقاع أبيات شعرية تقصيدث
، كل بيت شعري يتكون من أربعة أشطر، يردد كل صف نصف البيت ( شطران ) فيما يردد
الأخر النصف المتبقي بالتناوب، ويبرز هذا النوع من الرقص في المواسم الأولى؛ خاصة
موسم ’’ سيدي شعيب بو مفتاح ’’ بقلب الريف في قبيلة تمسمان ،
حيث تستعمل المجموعات آلة واحدة " أدجون " .
حتى أن ليالي العرس بالمنطقة الريفية تكون في باطنها محملة بزخارف متنوعة من
الرقصات التي تعبر عن الهوية الريفية بصفة خاصة، و الأمازيغية بصفة عامة، ففي بيت
العريس مثلا؛ ويسمى هذا اليوم بـــ " أوحني أمزيان "؛ أي الحناء الصغرى،
حيث الفتيات من أقارب العريس يقمن بإعداد وليمة و تنظيف المنزل من الداخل والخارج،
ويرافق كل هذه الأعمال أهازيج ورقصات غنائية تحمل في مضمونها القيمة الدنية
والاجتماعية للزواج، حيث أن رقصات الزواج تظهر بشكل متوالي من طرف نساء القبيلة في
موكب العريس حينما يتجه إلى منزل العروس، حيث يكون هذا الموكب مختلط بالعديد من
سكان الدواوير المجاورة، ويتميز هذا الرقص ببساطته وسرعته ، وغالبا ما يصاحبه
إيقاعات الطبل والغيطة والبندير، في شكل صفوف متوالية متوازية، وهذه الرقصات لها
خصوصيات معينة تتعلق بالبعد المحلي الخاص بالقبائل الريفية من جهة، ثم على مستوى
الخطاب فتكون عبارة عن أهازيج ومفردات قصيرة جدا تعاد وتكرر بدون رتابة، ثم على
مستوى الزي حيث تلبسن النساء المتزوجات الزي الأبيض، ونفس الشيئ بالنسبة للعازبات،
إلا أنهن يضعن على رؤسهن ورود تجمع ما بين اللون الأبيض والأحمر في علامة على
العزوبة، ويمكن أن نقول أن رقصات الأعراس والزواج تتشابه في مناطق الريف مع بعض
الاختلافات البسيطة، هذه الاختلافات تعود إلى البون الشاسع ما بين المدينة
والقبيلة.
المحور الرابع : خصوصية الرقص
الريفي بالمغرب
الرقص كجنس فني وكنوع متميز بخصائصه
الجوهرية والشكلية من المعالم والمؤشرات التي يمكن أن يقوم عليها تصنيف ثقافة أو
مجموعة بشرية، وتمكن من التعرف على انتمائها الجغرافي واللغوي والثقافي، من ذلك
على وجه المثال أنه بمجرد مشاهدة رقصة إمذيازن أو الركادة ، يتبادر إلى الذهن فضاء
تاريفيت أو أمازيغ الشمال حسب الشائع من الـتسميات، وهي في غالبها تعميمية وليست
دائما في تطابق تام مع النظريات السـوسيولغوية والسوسيوثقافية في المغرب ، و الجمع
في كل هذا أن الرقصات في حد ذاتها واجهة ظاهرية للثقافة المحلية التي تنتمي إليها
والتي أنتجتها ونمارسها، وبالتالي يكون العامل الجغرافي من جهة، والعامل اللغوي من
جهة ثانية، من بين أهم الخصوصيات التي تميز الــــرقص والغناء الشعبي الأمازيغي،
وعلى وجه الخصوص في إمذيازن التي تمتزج فيها الطبيعة بالإنسان .
ترتبط الرقصات الجماعية المعروفة عادة بالرقصات
"الشعبية" بمجموعة من العناصر المتنوعة المستمدة من الأدب والثقافة
الشفويين،من قبيل الغناء والشعر والمـوسيقى والحركات والطقوس والعادات، وغير ذلك
مما يصدر عن الذاكرة الجماعية والتي تدخل في عداد الممارسات الجماعية العريقة في
القدم والمتشعبة في عمقها بما تراكم من طقوس ثقافية واجتماعية ، وتقريبا كل
الرقصات مرتبطة بطقوس الاحتفال إن عائليا ( الزفاف والإعذار والعقيقة ...) أو
دينيا( المولد النبوي ...) أو وطنيا أو اجتماعيا ( المواسم ... ) وكذا بالأنشطة
الفلاحية و القروية الفصلية ( الحصاد... ) وهي من تم تعبير عن الفـــــرح والتضامن
والمشترك، مما يعني أن الثقافة ممثلة في العادات والتقاليد والأعراف تشكل خصوصية
مهمة يتميز بها الفن الأمازيغي بشكل عام، بل أن هذه الثقافة تميز كل البنيات الموجودة
في أي مجتمع من المجتمعات .
لذلك فإن الرقص والغناء الأمــازيغي يبقى
له خصوصياته و مقوماته التي تميزه عن باقي الرقص الغنائي العربي أو الحساني، ولا
غرابة حينما يقول فيه روني باصي " ليس ثمة لدى برابرة المغرب من ترفيه يلقى
أوج التفوق وأشمله وأهمه غير الرقصات الغنائية أو السهرات الغنائية ، وهي وإن كانت
لها بعض الاختلافات من منطقة إلى أخرى، تبقى ميزتها الجوهرية في تماثلها وتوحدها
" ، وهذه خاصية من بين خصائصها، أي ان الرقص الغنائي الأمازيغي يتميز بالبعد
التضامني الجامعي، إذ لا يمكن أن ينجح إلا في إطار التوحد والتجمع .
وتجسد الرقصات الريفية المتنوعة عمق الحضارة
الريفية وثقافتها المتعددة الجوانب التي تقام في تناغم وتكامل على الكلام الموزون
والحركة والغناء والرقص باستعمال آلات كثيرة وبسيطة في الصنع مثل
"البندير" الذي يصنع من جلد الماعز، كما تدل هذه الرقصات على انصهار
الفرد داخل الجماعة وامتثاله لأحكام وأوامر القبيلة أو العشيرة، حيث يجد الأب نفسه
مضطرا للتخلي عن سلطة التوجيه والأمر لشـــــخص أخر، وهي مظاهر تكتنفها الرقصات
عبر خضـــوع جميع من يمارسها لأعراف وقوانين نظام القبيلة.
يتبع..

تعليقات