القائمة الرئيسية

الصفحات

دراسة: الرقصات الاحتفالية بمنطقة الريف، الجزء الأول (الإطار المفاهيمي)

 

دراسة: الرقصات الاحتفالية بمنطقة الريف، الجزء الأول (الإطار المفاهيمي)


   العنوان الأصلي للدراسة كاملة والتي سننشرها في "ثيموزغا" عبر حلقات:

      "الرقصات الاحتفالية بمنطقة الريف شمال المغرب: رؤية سوسيوأنثروبولوجية"

بقلم الأستاذ:  محمد قروق كركيش

" اَشْرٍينا نَعجَة شَارفَة ذْبْحْنَاهَا وْصْنَعْنا مَن جَلْدها بَنْدٍيروْشَطّحنا العَالم".
محمد العيناوي

تقديــــــم عام :

          يعتبر الفن أي فن مقوم من مقومات الحياة الإنسانية ، لذلك فإن الظروف العامة التي يعيشها هذا الإنسان ، تجعله يعبر بمجموعة من الحركات والإشارات والأقوال ، قصد تفريغ اليومي و الترفيه عن الذات ، وكذلك التعبير المتميز لكافة المعاناة وأشكال الفرح بمجموع تنويعاتها، ولما كانت طبيعة المجتمع هي الحنين للسلام والحرية والخروج من القهر الإجتماعي، كان لابد للأفراد من أن يبتكروا طرقا جذابة في التعبير عن هذا الفن ، لذلك نجد كل مجتمع من مجتمعات المعمورة يزخر بكثير من الدلالات الإبداعية والفنية التي تدخل في إطار الرقصات الشعبية ، ويعتبر المغرب بهذا الصدد بلدا يحفل بكثير من الأنماط الاحتفالية على اختلاف مكوناته و روافده المتعددة ، العربية والأمازيغية والحسانية واليهودية المغربية ، لذلك نجد تنوعا صارخا يجمع ما بين الأصـــــالة و المعاصرة ، وسوف نركز في هذه الورقة على الرافد الأمازيغي الريفي كمكون أساسي في بنية المجتمع المغربي.

     ونجد الثقافة الأمازيغية الريفية بهذا الصدد من أغنى الثقافات ثراءا وتنوعا في الجانب الإبداعي الفني ، بحيث نجد أن الإنسان الريفي الأمازيغي بشمال وشرق المغرب قد ابتكر وطور كثيرا من فنونه الدلالية والرمزية للتعبير عن نكهة الحياة ، مرها وحلوها، ومن بين أبرز ما نجده في فنون الثقافة الريفية الأمازيغية، فن إمذيازن و الركادة وبعض الفنون الاحتفالية التي ترتبط بالرقص والتي تحمل طابع الخصوصية ؛ وهي كثيرة ومتنوعة للغاية، حيث يمتزج الرقص بالغناء والإيقاع ،وتشكل الأغاني الشعبية شكلا من أشكال التعبير الفني في أوعية إيقاعية متجانسة تضمن لها إمكانية التداول والانتشار، كما تشكل هذه الرقصات وسيلة من وسائل التعبير عن الذات والجماعة والتفاعل مع الطبيعة والناس والأحداث التاريخية ، لذلك تقدم الأغاني والرقصات الشعبية كافة الأغراض الموحية بالأفراح والأقراح، فبالإضافة إلى التسلية و المتعة ، تطرح الرقصات الشعبية كافة أنواع الطموحات وأشكال المعاناة التي يشكو منها المجتمع .

   وتعد فنون الرقص الريفي بالمغرب من بين الفنون الشعبية الرائعة التي تمرر لنا معاني ودلالات لا ينبغي أن نغفلها، لأنها في النهاية تستبطن مجموعة من المقاصد التي تطورت عبر مرور التاريخ و تغير المجتمع ، يعبر عنها في العادة بالغناء والرقص والإيقاع المرتبطين بنكهة المجتمع وبرمزيته المقدسة، لذلك فاستخلاص الدلالات المتنوعة لهذا الفن يحتم علينا الغوص في دراستها دراسة أكاديمية ترقى إلى المستوى المطلوب، وقبل أن نبدأ بتشريح معظم الرقصات التي تميز الجانب الشمالي وللأمازيغ نطرح مجموعة من الأسئلة توضيحا للمقصد وتنويعا للمعنى من قبيل :

كيف يمكن أن نعرف الرقص الشعبي ؟

وما هي الأنواع الرئيسية للرقص الريفي بشمال المغرب ؟

وهل يرتبط بالغناء كخاصية تميزه ، سيما إذا علمنا أن الرقص الأمازيغي الريفي يمتزج بشكل وثيق بالغناء والإيقاع ؟

وما هي مميزات هذا الرقص ودلالاته الرمزية ؟

المحور الأول : الإطار المفاهيمي

        إن مسألة الرجوع إلى المفاهيم وتوضيحها واكتشاف أنساقها وامتداداتها كفيل بوضع الباحث أمام صورة واضحة بخصوص البحث المراد إنجازه ، فهي تعد حاملة للتمثلات والتصورات المصاغة قبلا والمِؤطرة بدرجة أولى لمجال البحث الذي يحتضن مفاهيم تقنية وأكثر تداولية، إن طبيعة أي بحث يتصف بالعلمية ترافقه مفاهيم إجرائية حمالة للأفكار وتساعد على توسيع مجال البنية الحجاجية لتكون أكثر فاعلية، وللوقوف على الأبعاد والأشكال العامة للرقص الأمازيغي الريفي ينبغي معه وضع ترسيمة مفاهيمية تشمل نطاق هذا الرقص الشعبي، وقد قدم مجموعة من الباحثين والمهتمين مقالات مهمة ودراسات، رغم أنها قليلة، تبقى مهمة في هذا المجال؛ ويؤكدون على خصوصية الرقص الأمازيغي في مختلف مناطق المغرب، ولن نستبق الأمور في ذكر خصوصية الرقص، فيكفي أن نصرح منذ البداية أنه يرتبط أشد الارتباط بالموسيقى والإيقاع والشعر والغناء ؛ إذ لا يمكن أن تخلو رقصة معينة من هذه المكونات لأنها منبع الإبداع الأمازيغي ، لذلك ينبغي التركيز على توضيح مجموعة من المفاهيم المتاخمة لحدود الرقص الشعبي مثل الأغنية الشعبية، الموسيقى الشعبية، هذه المفاهيم هي ضرورة فرضتها طبيعة الموضوع فعندما يحضر الرقص تحضر الموسيقى والأغاني ، إنه الرقص كبناء فلكلوري معقد يعبر عن صيرورة اجتماعية - ثقافية للمجتمع الأمازيغي الريفي بشمال المغرب.

    1- مـفهوم الأغنيــــــــــة الشعبيـــــــــــة :

          قبل أن نبدأ بتعريف الرقص الشعبي، كما قلنا سابقا، لابد لنا من تعريف الأغنية الشعبية على اعتبار أن هذه الأخيرة ترتبط بشكل وثيق بالرقص، فلا يمكن أن نجد رقصة معية دون غناء أو شعر مغنى من طرف المنشد أو المغني ، فالأغنية الشعبية مثلها مثل الرقص ترتبط أشد الارتباط بالبيئة المجتمعية التي تنتجها من جهة، كما أنها من جهة ثانية "شكل من أشكال التعبير عن المآرب والآلام والآمال، قوامها اللفظ العامي المتداول بين الناس، وقد أفرغ في أوعية إيقاعية متجانسة تمتلك القدرة على إخراجه -اللفظ- من محدودية امتداده وتحركه، وتنفث فيه بالمقابل روح التداول والإشعاع خارج محيطه الضيق" ، فهي بنية تعبيرية تخضع لمقومات الإبداع الشعبي النابع مما تصوغه الحياة الاجتماعية من تفاعلات بين الأفراد في شكل قوالب إيحائية أحيانا وترميزية في أحايين أخرى، إنها بتعبير ’’جورج هرتسوج’’ " الأغنية الشائعة أو الذائعة في المجتمع الشعبي، وأنها تشمل شعر وموسيقى الجماعات الريفية التي تتناقل آدابها عن طريق الرواية الشعبية دونما حاجة إلى تدوين أو طباعة " ، فالأغنية الشعبية على هذا القياس مصدرها الشعب إبداعا وممارسة، فهو مؤلفها وملحنها ولا ترتبط بمبدع معين، كما تتناقلها الذاكرة الشعبية ضمن تلاقح بين الأجيال شفهيا، وهي تغنى بشكل جماعي أو انفرادي، وذلك لغرض ترويحي أو لأنها تختص في لحظة معينة بوظيفة اجتماعية معينة، أو طقوس أو مناسبات محددة، ويشير ’’هانز موزر’’ إلى أن " المجتمع الشعبي يقوم بتعديل التعابير التي يبدعها الأفراد، وإخضاعها لوجدانه وعقله الجمعي، كي تلائم التعبير عن حاجاته المتعددة، ومن ثم يصف الأغنية الشعبية بأنها " الأغنية التي قام الشعب بتعديلها وفق رغبته..." ، إنها بتعبير آخر إعادة إنتاج جمعي لإنتاج فردي تحيل على آلام وآمال الجماعة، وبتصنيف ممنهج يمكن القول أنها:

   - تحمل في طياتها طابع الشعب معبرة عن عاداته وتقاليده وأخلاقياته، وهي في نفس الآن تتأثر بالمراحل التاريخية والسياسية وغيرها.

- مجهولة المؤلف إلا أن هذا لا يمنع أن يكون لها مؤلف ولو كان غير معروف.

- إبداع يتميز بصفة الجماعية، بمعنى آخر أن أي شخص يستطيع أن يشترك في أداء الأغنية، وهذا غير متاح بالنسبة للأساليب الغنائية الأرقى.

- تتميز بالشيوع والانتشار.

      أما الشق الثاني من هذا المركب الإضافي، " فيفيد التعدد والتباين في نطاق الوحدة الشاملة مما يعكس مدى الفعالية والحيوية والتمثيلية التي يتميز بها، والتي يفرضها منطق الأشياء وطبائعها كشرط من شروط الحياة الاجتماعية " ، فالأصل اللغوي للفظة "شعبية" "يفيد التعدد داخل الوحدة كما يفيد الاختلاف داخل الائتلاف. وهذه التقابلية في الدلالة اقتضاها منطق الحياة المتشعبة المناحي على نحو ما اقتضاه قانون الكون الذي ليس سوى تقابل(الخير/الشر، النور/الظلام...) فتعدد الشعوب والقبائل فرضته المصلحة (الدم والنسب، واللغة، والدين) وهو تعدد مبني على التوحد فما اختلفت قبيلة مع أخرى إلا لأنها توحدت فيما بينها ".

2- مفهوم الموسيقى الشعبية :

تعتبر الموسيقى من أهم العناصر التي تصاحب الرقص كيف ما كان نوعه، إذ لا يمكن أن نجد رقصة معينة تخلو من موسيقى ايقاعة، فالموسيقى الشعبية تختلف عن الموسيقى المثقفة أو العالمة في أن هذه الأخيرة يتحكم في تأليفها وأدائها القواعد العلمية، فهي منظمة على مستوى إيقاعها وبناءها الفني، أما الموسيقى الشعبية " فتتميز كعناصر الفولكلور ببساطة مكوناتها، فهي موسيقى (ميلودية) لحنية سهلة الأداء، كما تتميز بالانتقال السماعي، وليس على النوتة الموسيقية المكتوبة، مما يساعد على الارتجال، ويؤدي إلى التنوع والابتكار والتجريد ".

       وهذا لا يعني البتة أن الموسيقى الشعبية خالية من القواعد، بل أنها تمتاز بخصوصياتها المعقدة التي تخضع للحظة الرقص ، وبإمكاننا القول أن الرقص بالريف تحكمه أنواع مختلفة من الموسيقى الإيقاعية بشكل عفوي " الأدب والفن الأمازيغي كله فطري ، يأتي عفو الطبيعة والفطرة في ذات المنتج ، ومثل الأمازيغي بطبيعته وتكوينه الفطري يميل إلى السذاجة، ويحب البساطة، يكره الغلو والمظهرية ويمقت التزويق والخداع والنفاق(...) على مثل ذلك جاء إنتاجه الفني " لذلك حاكت الموسيقى الريفية الطبيعة في بساطتها وإبداعها وأخذت منها مكوناتها ورونقها العام التي تنبني عليه، ومن تم كانت الثقافة الأمازيغية دائما قريبة من البساطة والطبيعة ، كما تعتمد الموسيقى الشعبية على آلات بسيطة التركيب، بحيث تتم صناعتها بطريقة يدوية واعتمادا على مواد محلية.

3- مفهوم الرقـــص الشعــــبي :

     يستخدم هذا المصطلح لوصف ما يبدعه الناس من أشكال الرقص المتعارف عليها بناء على طبيعة المجتمع ومراعاة للموسيقى الشعبية السائدة متناغمة معها ومبنية على إيقاعاتها، " والرقصات الشعبية هي نتاج الحياة نفسها تستقى من نشاطات الناس لتعكس أعمالهم التي يقومون بها مثل الزراعة، والحرب، والمواقف الرومانسية، وكذلك أعيادهم واحتفالاتهم وطقوسهم التي يمارسونها، وعاداتهم، ومعتقداتهم، وأفكارهم" ، فالرقص بهذه الصورة يمثل مرآة تعكس تاريخ الشعب والأحوال الطبيعية التي تعيش فيها .

       كما أن الإنسان الأول استخدم الرقص للتعبير عن عواطفه على اعتبارها من اللغات الأولى التي عرفها إلى جانب الصوت والدراما ليشكل أساس وانطلاق باقي الفنون من بعدها. والرقص يجمع بين الرياضة والفن بحركات متناسقة تختلف في شكلها وإيقاعها باختلاف وقت ومكان ظهورها لارتباطها بالعادات والتقاليد المجتمعية، وهذا الفيلسوف الإنجليزي’’هفلوك’’يختصر الحديث عن فن الرقص كفن راق بقوله:" إذا كنا لا مبالين في نظرتنا إلى فن الرقص فإننا لاشك فاشلون ليس في تفهم الظاهرة السامية في الحياة المادية فحسب،بل في تفهم الرمز السامي للحياة الروحية أيضا" ، ولابد أن هذا القول يعكس القيمة الحقيقية للرقص كفن وكتعبير عن مختلف مقومات الحياة الإنسانية .

      ويصاحب هذا الرقص الشعبي الموسيقى والغناء الشعبي، وكل مجتمع هو بالضرورة خاضع للتغير على اختلاف مستوياته إذ يطال كل الأنساق الاجتماعية والثقافة من منظور شمولي، وبالتالي فهذا الرقص يتطور بتطور الموسيقى، والموسيقى تتطور بتطور الآلة وهكذا، لذلك ليست هناك أي ممارسة إنسانية جامدة أو متحجرة بل إنها متماهية مع صيغ الحياة المختلفة.

    إن هذا الإجراء المفاهيمي الذي تم التركيز فيه على ثلاث مصطلحات مركبة (الأغنية الشعبية، الموسيقى الشعبية والرقص الشعبي)، يشكل بنية تحتية لتناسق الروابط العامة التي تجمعها بعضها ببعض ، فمسألة دراسة الرقصات بالريف في المغرب تحتاج بدرجة أولى قطبا المقارنة بين هذه المفاهيم ، والتي تعبر عن تداخل قائم لابد من تفكيكه وفي نفس الآن ينبغي تحليل عناصر كل قطب على حدة لتتوضح فيما بعد أوجه التشابه والاختلاف كي يسهل معه فعل المقارنة ، كان هذا إذن مسوغنا العلمي في ذكر كل هذه المفاهيم التي لابد من ذكرها في النهاية.

 يتبع..


تعليقات

التنقل السريع