القائمة الرئيسية

الصفحات

حراك الريف بين وشوم الذاكرة الحارقة ودفئ الفن القادم من عمق الجليد

 

حراك الريف بين وشوم الذاكرة الحـارقة ودفئ الفن القادم من عمق الجليد

بقلم د.محمد سعدي

           لوحـة فنية رفيعة، من مقاس 100 سنتمر × 100 سنتمر ، سمكها 8 ملمترا، لا يمكن للعين أن تخطئها، ارتبطت بزخم حراك الريف وببوح الذاكرة الجمعية ، دخلت ضمن سجلات تاريخه الفني بامتياز بعد أن تحولت لإحدى أشهر إيقوناته الفنية والبصرية.

هل تعرفونها ؟ ما اسم مبدعها ؟

 ما قصتها مع حراك الريف ؟

ما حكايتها مع جبل الجليد (iCEBERG) ؟

    تجولَت وتنقلت بين عدة مدن أوروبية، عُرِضَـت في بعض المؤتمرات الأكاديمية الدولية، صَاحِبُها ضحى بصمت وعانى كثيرا من أجلها ، اعتبرها تحفته الثمينة فأحاطها بعنايته الشديدة . كان يحرص أشد الحرص على نقلها في أحسن الظروف حفاظا على سلامتها من كل خدش . عُرِضت على شكل لوحة ورقية ثم على شكل لوحة محفورة على زجاج شفاف بشكل متقدم في مجال التصميم الهندسي، وأضاف إليها عامل الإضاءة الخلفية المتعدد الألوان بتقنية الليد بالأحمر الأخضر، الأزرق (LED RGB ) رهبة وهيبة. تشع في اللوحة الزخات الدافئة للأزرق الفيروزي والأخضر الزمردي والبني العنبري وتنساب أضواء خافتة بلطف بين ثناياها لتمنح لها بهاء ورونقا .

 للصورة عدة نسخ ، فقد خضعت مرارا لعدة تعديلات ( آخرها عام 2019)، فروحها غير قابل للإشباع بتاتا كنيران دفينة وجراح غير مندملة في كل مرة كان على المصمم والفنان صاحب اللوحة أن يغرز عميقا في رحم الذاكرة المكلومة ليولد وشوما جديدة كفيض غزير لا ينتهي ، فكان ما كان ويا ليت الذي كان ما كان.

        تجسد اللوحة التحام الفن بهموم الريف وانشغالاته وانكساراته فكانت خير معبر عن التشبث بالهوية والجذور والوفاء للذاكرة الحية عبر ربط الماضي بالحاضر ، ونجح مصمم الصورة بذكاء في نفخ الحياة والروح في ذاكرة كانت سجينة الماضي ، فحولها لذاكرة نموذجية تستشرف المستقبل ويلتحم فيها الماضي بالحاضر من أجل قيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. وبقدر ما نجح في تحويل ملامح وجه إيقونة الحراك ناصر الزفزافي لسجل لذاكرة وتاريخ الريف بقدر ما نجح في توجيه تعابير بورتريه نحو بناء الحاضر والتطلع للمستقبل عبر استدعاء قيم الحرية ،حقوق الإنسان والكرامة والعدالة الاجتماعية داخل الصورة.

     في اللوحة مصفوفات وسجلات مشفرة وطبقات من الذاكرة ، لا أعرف كيف نجح مصممها في أن يرتبها بشكل متوازن وأن يوزعها في صورة متناسقة على ملامح وجه ناصر الزفزافي باعتباره سفيرا متنقلا بين الماضي والحاضر وجسر عبور ذاكراتي نحو أفق المستقبل، وهي تختزل في قالب واحد، كخطاطة ،الذاكرة الجمعية بانكساراتها ونكباتها وآهاتها وأمجادها وحتى طموحاتها ، وهذه السجلات تتوزع بحسب التسلسل الزمنــي من الأعلى إلى الأسفل .

- تواريخ الصدمات المختارة: ، 1898 1926، 1958-1959 ، يناير 1984، 20 فبراير 2011، 28 أكتوبر 2016، 29 ماي 2017 ، والمعجم اللغوي الذي يؤثثها : الأسلحة الكيماوية، الموت المأسوي،الاضطهاد، أدوز، عام إقبان، الإمبريالية، فرنسا وإسبانيا، الجثث، الحكرة، جرائم ، المخزن، محسن فكري،...

- تواريخ المجد المختار : أنوال ، دهار أوباران، إغريبنن ، جمهورية الريف، الشريف محمد أمزيان، الأمير الخطابي ، المعتقلون، أمغار ناصر الزفزافي، جلول، المجاوي، إعمراشن، الحنودي، نبيل أحمجيق ،الحنودي، الحمديوي، إلياس الحاجي،... مقاومة ، الرجال،

- أماكن الذاكرة : أدوز، الحسيمة، بيا، بقيوة، تمسمان، آيت ورياغل، بني توزين، تمازغا، ساحة الشهداء، الريف،...

- مفاتيح تحرير الذاكرة وبناء المستقبل : التربية،السلمية، الحق في العمل، العدالة الاجتماعية، الحرية، العدالة، الحق في الصحة، الكرامة ، الحق في التعليم، ...

    رغم الحمولة الرمزية للوحة فإنها لم تحض بأي اهتمام يذكر ، وهي التي أصبحت تؤثث المشهد الخلفي للغرفة التي كان ناصر يبث منها خطاباته في أوج الحراك الشعبي بالريف، ولم تمنح لها ما تستحق من اعتبار في مناسبات ومحطات عدة لحراك الريف بأوروبا ووضعت في أحيان عدة في زوايا الهامش والإهمال ، ولم يتم تكريم صاحبها بتاتا ، بل وعومل أحيانا من قبل بعض من يَدَعُّون أنهم من نشطاء الحراك البارزين بالكثير من اللامبالاة والفضاضة والغلظة.

     في خضم انتشار الإحباط والانقسام والصراعات وسط الحراكيين وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون، كان الحراك أشبه بجبل الجليد (Iceberg) كتلة واحدة متماسكة وصلبة يجمعها إيمان راسخ بقضية عادلة ، الجزء الظاهر فوق الماء من الجبل لا يشكل إلا جزءا صغيرا من زخم الحراك وهو هش ويذوب بسرعة بينما يشكل الجزء السفلي واللامرئي تحت الماء الكتلة الحقيقية الصلبة للحراك التي تصمد طويلا ويصعب تذويبها وكسر عزيمتها وهي القادرة على ضبط التوازنات . خلف المشهد المرئي للمتهافتين واللاهثين وراء السراب ولأصحاب اللايفات والجدالات الفارغة والتخوينات والوشايات وصخب الاندفاع المجاني في مواقع التواصل الاجتماعي وحرص آخرين للظهور في الواجهة أو البروز في الأضواء الكاشفة أو ادعاء الإسهام بقسط وافر في دعم الحراك ومعتقليه يوجد مشهد رائع أوسع وأرحب وأعمق صدقا لكنه غير مرئي ويعبر عن كتلة صلبة صماء رصيدها قوة الإيثارية والتضحية. قوة الصدق جعلت الكثير ، أقول الكثير من الحراكيين يتوارون للخلف بصمت وهدوء ، ويصرون على البقاء في المؤخرة بل حتى وراء الستار وفي الكواليس . اشتغلوا في الظل بإمكانيات ذاتية بسيطة لكن خفقان القلب ورهبة الإيمان وشعلة الحماسة جعلت عملهم بناء وجادا وواعيا بالسياقات والحدود والخيارات الممكنة . اختاروا عن قناعة الابتعاد عن نرجسية الأضواء وإغواء الواجهة وشوفينية الأهواء ورعونة الشتائم ، هم أبطال من نوع آخر ، نعم أبطال بلا مجد ولم تسلط عليهم الأضواء الكاشفة وسط الحراك ، منهم الطلبة والمثقفون والفنانون و لكن أغلبيتهم مواطنون عاديون ... موجودون داخل وخارج الوطن،اختاروا عن قناعة شق الطريق في هدوء ولكن بإصرار وعناد شديدين. صاحب اللوحة من هؤلاء الذين لا يحبون الظهور في الواجهة ولا يرغب في صخب الفيسبوك و اللايفات وهو ينتمي عن حق للنواة الصلبة للطبقة الجليدية المتماسكة للحراك.

          مثقف وفنان ومصمم، عاش طفولته ومغامراتها ما بين الحي الشعبي "الرومان" وخصوصا في مدخله الدولي حيث كان الأجانب من مختلف الجنسيات يشكلون جزءا من الساكنة وبين غابتها وجبلها الشهير ب (la punta de bandera) وانتهى به الأمر في العيش مدة قيرة بهضبة إغار أزواغ بمدخل مدينة الحسيمة. تنقل بين الحسيمة ووجدة وتطوان ثم انتقل لجنوب فرنسا وانتهى به المطاف في باريس حيث أكمل دراساته العليا في فنون التصميم.تمساماني الروح، يحمل طباع أهلها، خفيف الظل، حسنُ المَعشرِ ، ينفذ للقلب بأريحية، يجمع بين الوداعة والنبل والهدوء والبساطة وهي قيم معهودة في أهل تمسمان أهل الخبز والأمان، يعشق أرضه حتى النخاع فقد سلبت وجدانه، دائما ما يخالجه حنين جارف لذكريات عابرة وغابرة ببلدته وطبيعتها الفاتنة. لكنه يبقى باريسي الهوى والذوق ، يعشق مدينة الأنوار ، يلهمه دفئها حتى في أكثر الأيام صقيعا، ويمكنه أن يصف لك وبحس مرهف حتى ما يعتبره تغيرا لأضوائها بتغير فصول السنة. يعشق فن العيش والمؤانسة على الطريقة الباريسية ، ويحب الجولات الصباحية الهادئة على نهر السين وشرب قهوة دافئة في المقاهي المحاذية له .

     يهيم هياما بمرتفع مونتمارت حيث تتحسس امتزاج عبير الفن بالتاريخ خصوصا تحفة كنيسة القلب المقدس وساحة "دو تيغتر" القلب النابض للفنون. في هذه الساحة الصغيرة المربعة تَعَود المجيء لسنوات ، يتأمل الفنانين يرسمون بورتريهات لمختلف السياح الذين يرتادون الساحة ، وهو معجب خصوصا برسام ذو سحنة يابانية عهدته الساحة منذ عقود ولديه حركات وإيماءات فريدة وعجيبة بالجسد والعين حيث يلتقط بأنامل يديه وبقلمه الفحمي سنحات وتعابير الوجوه العابرة بالمكان ليقدم لها بورتريها يعكس ملامح الوجوه بدقة. لهذا الفنان الريفي طقوسه الخاصة في التأمل الدائم للمنظر البانورامي الساحر للعاصمة الفرنسية باريس من مونتمار. وبالطبع لا بد أن يعرج ليتبرك بالنفحات السوريالية لمتحف " سالفادور دالي "، وهو لا يُفَوِّت أي معرض فني يقام في باريس وضواحيها.

     يمتلك دراية فنية وهندسية دقيقة بتاريخ ومعمار كل المباني التاريخية والفنية لهذه المدينة، وله معرفة بأطياف معظم كبار الأدباء والفنانين والمسرحيين العالميين الذين مروا أو أقاموا بها، بأماكن إقامتهم والأزقة التي كانوا يعبرون منها وبالطقوس التي كانوا يعشقونها.مغامراته الباريسية تليق برواية أو فيلم سينمائي، وله قصة أو قصص في كل زقاق من الأزقة وفي كل جسور نهر السين وحتى في الكثير من القوارب الساكنة والمركونة في ضفاف نهر السين .

     يتحرك كالنحلة لا يكل ولا يتعب، ولا يتنفس غير نسيم الفن والحرية ، لديه أفكار عدة ومشاريع للنهوض الفني بالريف وجعل الفن في خدمة التراث والذاكرة والإنسان ، شعاره " أنا أثق في الفن" و" الحياة تمرد وتحدي "و" تفوق على نفسك لتقهر تحديات الحياة ". كان وراء إبداع الكثير من اللوحات الفنية والتعبيرية الشهيرة للحراك ، وكان مع بعض جنود الخفاء وراء مجموعة من المبادرات الفنية الإبداعية في الكثير من المسيرات الأوروبية للحراك. يكره الشوفينية والأصوليات بأنواعها المختلفة ويعكس فنه أفقا إنسانيا رحبا ، هو منفتح على الجميع وجعل فنه جسرا مفتوحا للجميع وعلى الجميع بعيدا عن كل الانتماءات الهوياتية الضيقة.

     يناقش معك بهدوء ويجيد الإنصات فهو يحب أن يتعلم باستمرار ، لكن ما أن تتحدث أمامه عن الحراك وعن، نشطاء الحراك ، المعتقلين السياسيين، وخصوصا عن ناصر الزفزافي وعن أمهات المعتقلين إلا وتتغير تعبيرات وملامح وجهه وتنتفض مشاعره الرهيفة وفي دواخله غصة وفي أعماقه ألم دفين وفي قلبه حكايات وقصص لم تروى بعد . دائما ما يردد " متى سنعود لحياتنا العادية كما كنا في السابق؟ "، " متى سينتهي هذا الكابوس وهذه المحنة؟" ، "متى سنستعيد فرحتنا ويأخذ الطريق الضيق منحى آخر ؟".

اسم اللوحة : " ثيكاز ن ثَوَنْكَنْتْ نَا ريف" " وشوم ذاكرة الريف" للفنان المصمم صاحبي إدريس (إبن الريف).






تعليقات

التنقل السريع