"من أجل وطن يتسع للجميع" بقلم محمد جلول
بقلم محمد جلول
عكس البلدان المتقدمة المواطنة حيث تلاحظ برودة الأعصاب التي تميز مواطنيها، و النشاط و إشراقة الحياة دائمة على وجوههم و مُحَيَّاهُم، فإنه في البلدان الاستبدادية المتخلفة اللاوطنية تلاحظ عند غالبية مواطنيها سرعة الانفعال والغضب وحالة التعاسة والشقاء مرسومة على قسمات وجوههم، حيث يشيخ الانسان في سن مبكرة...
وهذه الفروقات ليست مسألة خلقية، وإنما هي انعكاس لواقع الحال، فكل الناس يولدون في الأصل احرارا، وتكون لديهم في مقتبل أعمارهم أحلاما وردية ومشاريع مستقبلية في أن يصبحوا اشخاصا ذووا مكانة مهمة يحققونها في وطنهم من خلال الأدوار التي يتمنى كل واحد أن يلعبه مستقبلا في مجتمعه...
فهناك من يحلم أن يصبح طبيبا، وهناك من يحلم أن يصبح لاعبا كرة القدم، وهناك من يحلم أن يصبح رائد فضاء، وهناك من يحلم أن يصبح أستاذا، وهناك من يحلم أن يصبح مخترعا وهناك من يحلم أن يصبح رجل اطفاء، وهناك من يحلم أن يصبح رجل أعمال ناجح...
نعم فالسمة المشتركة بين جميع الناس في العالم في طفولتهم ومقتبل اعمارهم، هي أنهم جميعهم يكونون مقبلين على الحياة ونابضين بالحيوية والنشاط، ولكن للأسف الشديد بعد ذلك تبدأ الفروقات والاختلافات في التشكل و النشوء بين مواطني مختلف البلدان...
نعم فعكس البلدان المواطنة التي تستوعب وجدان وطموحات أبناءها وتوفر لهم كل الشروط والامكانيات لإظهار مواهبهم وملكاتهم وكفاءاتهم وتطويرها، وتساعدهم على تحقيق احلامهم وطموحاتهم وانجاح مشارعهم...
وفوق ذلك تضمن لهم حرية التعبير والحقوق الكاملة للمشاركة السياسية والمساواة وتكافؤ الفرص أمام الجميع لبلوغ مختلف المناصب السياسية و الوظيفية مع ربط المسؤولية بالمحاسبة وعدم الإفلات من المُساءلة والعقاب..
-فإنه في البلدان الاستبدادية غير المواطنة مثل بلادنا، فأحلام الناشئة تصتدم بواقع يسد كل الابواب والافاق أمامها حيث يجد المواطنون أنفسهم منذ مقتبل اعمارهم في وطن يتنكر أصلا لوجودهم ولثقافاتهم ولا يعيرهم أدنى اعتبار...
-نعم يجدون أنفسهم في وطن يختزل هويتهم وانتماءهم لهذا الوطن في مجرد وثيقة إدارية، ولا يهتم بمعاناتهم ولا باحلامهم ولا بطموحاتهم، ولا يسمح لهم بأي دور حقيقي في المشاركة السياسية لتقرير مناطقهم ومصير بلدهم...
هذا في الوقت الذي يرون أن هناك أقلية محظوظة في هذا الوطن تعيش عالما غير عالمنا، تستحوذ على كل شيء بطريقة غير مشروعة عن طريق النفوذ و الارتباط بالسلطة وتستفيد من كل الامتيازات والمناصب والوظائف المهمة، وتبدد وتبذر اموالنا العمومية وثرواتنا الوطنية بشكل فاحش ومن دون رقيب ولا حسيب حيث جعلوا هذا الوطن ضيعتهم الخاصة من دون الاخرين...
وفوق ذلك فإنه كل من يحاول أن يحتج على هذا الواقع وينادي بالتغير، يُتهم بالشعبوية و يجابه بالحصار والانتقام والقمع والاعتقالات، حيث يجد المواطنون أنفسهم بين سندان بؤس الواقع وانسداد الابواب والافاق، ومطرقة القمع والحصار والمتابعة...
وهكذا يصطدم المواطنون بالواقع المزري وبالقهر و يصابون بخيبات الأمل المتتالية، وتتبخر احلامهم الوردية، ثم يختفي المشروع والطموح، وتخبو لديهم نبضة الحياة و تذبل ويشيخ الانسان قبل أوانه، حيث يدخل في بحر من التعاسة والشقاء والامراض النفسية العويصة، في ظل حياة بلا معنى ولا هدف ولا مشروع ولا طموح سوى اجترار مرارات الأيام، وانتظار الموت، وفوق ذلك مصير مجهول...
وهكذا يظهر جليا أن حياتنا البئيسة ليست قَدرا مقدورا علينا كما يحاول أن يقنعنا الفقهاء المظللون الذين يدعوننا إلى الرضا والقناعة بالمكتوب كما أن امراضنا النفسية العويصة ليس سببها الجن والمس كما يدَّعي هؤلاء الفقهاء زورا وبهتانا و توطؤا مع قوى الإستبداد و الفساد لتنويم الناس وتخديرهم وإلهائهم بالرقية الشرعية والخرفات والأوهام...
كما يجب أن نقول أن الوطن بريء كل البراءة من حرماننا وآلامنا ومعاناتنا وأن المسؤولية عن هذا الواقع المزري يتحملهم أولئك الذين يحتكرون هذا الوطن بأنفسهم دون سواهم ولا يتركون لنا سوى الفتات والوعود والشعارات الرنانة التي لا تتحقق أبدا لأنها مجرد وسيلة للإلهاء والتنويم واللعب على الوقت وهذا ما علمتنا إياه التجربة...
ولكن يجب أن نقول في الأخير أن المسؤولية الكبرى يتحملها المواطنون عندما يستسلمون لهذا الواقع الظالم بسبب جبنهم وعدم استعدادهم للتضحية، لذلك فلا بديل عن النضال من أجل التغيير ومن أجل وطن يتسع للجميع تسوده الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ويمثل وجدان الشعب وهويته الثقافية وطموحاته المستقبلية بمختلف مكوناته الجهوية، ومن دون هذا الخيار فليس هناك سوى الجحيم.

تعليقات