قراءة في كتاب "حراك الريف: ديناميات الهوية الاحتجاجية، دراسة ميدانية" لمحمد سعدي.
بقلم الأستاذ: فريــد ولــدمحند.
مقدمة
صدر مؤخرا للأستاذ محمد سعدي كتاب جديد تحت عنوان : حراك الريف، ديناميات الهوية الاحتجاجية، دراسة ميدانية، عن دار النشر والطباعة: سليكي أخوين-طنجة، الطبعة الأولى أكتوبر 2019. الكتاب في 308 صفحة من حجم القطع المتوسط، صمم الغلاف بشكل متميز من طرف صاحبي ادريس، عبارة عن صورة مركبة في غاية الأهمية، للمكونات الأساسية للهوية الريفية والذاكرة الجماعية للمنطقة ورموزها الخالدة.
قسم المؤلف الكتاب إلى سبعة محاور أساسية موزعة بشكل منهجي ومتناسقة تتخللها عناوين فرعية تنسجم وتتناغم مع متنها، وهي كالتالي:
في البدء كان التاريخ
عودة الروح وحرقة الأسئلة
حراك يعزف، رغم المعاناة، لحن الحياة
حراك الريف: صرخة الغضب المدوية
ناصر الزفزافي: صانع الأحلام والأمل
من أجل مغرب آخر: مغرب الكرامة الحرية والعدالة
عزي أحمد: شموخ جبال الريف
على سبيل الختم.
إشكالية الكتاب ومنهجه:
استهل الباحث دراسته بمقدمة ضمنها إشكالية الموضوع، صاغ فيها أسئلة محرقة، وكل سؤال هو مدخل لدراسة مستقلة. يستفز الأستاذ سعدي قراء الكتاب بسبعة وثلاثين سؤالا، يعترف منذ البداية في مقدمة الكتاب، بأن دراسته تقدم حقائق مثيرة حول الحراك، تطرح أسئلة أكثر مما تقدم إجابات حول مواضيع حساسة، من قبيل:
ما هوية الحراك وفلسفته؟ كيف تحول ناصر إلى أيقونة الحراك؟ كيف كشف الحراك هشاشة المصالحة مع الريف؟ هل أعاد حراك الريف الروح للهوية الريفية الأمازيغية؟ الجدل المجتمعي والإعلامي حول الرايات وبالخصوص علم الريف، ألا يجسد في العمق اختلالا في تمثل المغاربة لتاريخهم؟ هل هي بداية إفلاس الرواية الرسمية للتاريخ المغربي؟ لماذا يحتج الريف بشكل حاد مع أن هناك في المغرب مناطق أولى بالاحتجاج حيث تعاني من بؤس اجتماعي أعمق؟ ...
تمكن الباحث من خلال إجاباته على بعض من هذه الأسئلة، السفر بالقارئ إلى أعماق الريف الثقافي والتاريخي، وتفكيك مجموعة من القضايا الشائكة لذاكرة تأبى النسيان، غير أنه في معرض استعادته للأحداث البطولية منها والمحزنة، ينتقل من مرحلة إلى أخرى دون ربط أو خيط ناظم للأحداث المتداخلة كما هو مبين في الصفحة 28 من المحور الموسوم ب: قسوة، جراح غائرة، ومقاومة، أورد فيه أحداثا مهمة سماها "الصدمات التاريخية الكبرى للريف"، إذ ينتقل من الحديث عن "الحملة التأديبية" ضد قبيلة بقيوة 1898م ثم اجتماع كبار أعيان قبائل الريف الشرقي في يونيو 1909، استعدادا لمواجهة تهديدات الإسبان للريف بزعامة الشريف محمد أمزيان، هذا الانتقال المفاجئ بالقارئ من حدث لآخر دون الإشارة ولو بشكل وجيز إلى الفترات التي تفصل بين الأحداث، وهي فترات شهدت أحداثا مكثفة تساعد القارئ على إدراك التحولات المجتمعية وتفكيك مختلف الظواهر التي يفرزها المجتمع لفهم وإدراك ردود أفعاله ونزوعه نحو المقاومة ورفض الخضوع للأجنبي.
منهجيا لم يلتزم الباحث بطريقة واحدة حينما يورد عبارات باللغة الريفية ثم يترجمها إلى اللغة العربية أو الدارجة، إذ يعودنا في البدايات الأولى من متن الكتاب على هذه القاعدة أي إيراد العبارات بأمازيغية الريف أولا ثم يترجمها بعد ذلك، إلا أنه في باقي الصفحات يخالف هذه الطريقة، كما هو الشأن مع قصائد الرائعة الفنان وليد ميمون التي أوردها في الصفحة 80 من الكتاب عكس الطريقة الأولى التي يبدأ فيها بالترجمة العربية للقصائد الريفية ثم يعيد كتابتها بلغتها الأصلية الريفية كما هو الشأن مع قصيدة " ثامورث ذ يماثنيغ" في الفقرة الأولى من الصفحة: 79.
نقر منذ البداية أن هذا العمل بذل فيه الباحث مجهودا جبارا في وقت قياسي، سواء من حيث التوثيق للموروث الشفوي المهدد بالتواري ويصبح نسيا منسيا، قصدا وسياسة، في ظل عولمة ثقافية عابرة للحدود تلتهم كل الخصوصيات، أو تسليط الضوء على حراك الريف وتفكيكه لمجموعة من الإشكاليات المطروحة وتحليله لإزدواجية الدولة في تعاملها مع الحركات الاحتجاجية وتعريته لمواقف الطبقة السياسية.
أهمية الكتاب وراهنيته:
تؤكد دراسة ذ. سعدي بالملموس أن المثل القائل: " أمذياز ن دشار أو يسفورج" -بمعنى (مطرب الحي لا يطرب)- غير منصف بل العكس، مغني الحي ينعش الفرجة ويحييها ويصون الذاكرة ويقويها حماية من كل مغالطة ومحو للذات.
يبدأ الكتاب في الانسجام مع عنوانه من الصفحة 80 رغم أهمية المعطيات السابقة، إلا أنه ابتداء من المحور التاسع ، وضع له الباحث عنوانا: "في البحث عن الزمن المفقود"، طرح فيه أسئلة عميقة طويلة ممتدة في الزمان والمكان، من قبيل:" لماذا الهوية الجماعية بالريف دفاعية يسكنها التاريخ والذاكرة بشكل حاد يجعلها تعاني العسر في استشراف الأفق بدون استلهام "الزمن المفقود "؟
حديث الكاتب عن التيار الجمهوري الذي ظهر بالدياسبورا مركزا على الموحنديون كما يسميهم، لم يكن واضحا، ترك الأمر مبهما، أشار إلى أن هذا التيار ينطلق من مسلمة مفادها أن الريف كيان مستقل بذاته له مرجعيته الفكرية والسياسية الثابتة، وقبل ذلك كان قد مهد لهذا الموضوع في الصفحات السابقة خاصة حينما كتب بالقول: " ..ومن جهة أخرى تشكل تجربة إنسانية (جمهورية الريف) نابعة من سياق تاريخي واجتماعي معين لا يمكن استعادتها بتاتا ولا إلباسها تعسفا لباسا على غير مقاسها إلا في عقول الأصوليين والسلفيين الذين يريدون العيش وسط الأموات وعلى النهج المتخيل " للسلف التاريخي الصالح" وأمجاده التليدة."
تثير قضية تأسيس محمد بن عبد الكريم الخطابي للكيان السياسي المستقل بالريف أسئلة عديدة وإشكالية أيديولوجية تفتح شهية الباحثين من مختلف الحقول المعرفية، وقد أثارت دراسة محمد أونيا الموسومة ب: عبد الكريم الخطابي وأسطورة الانفصال، جدلا واسعا بعدما فند تأسيس محمد بن عبد الكريم نظامه السياسي على أساس جمهوري وإنما إمارة إسلامية، مدعما دراسته بوثائق وآراء مختلفة مع ترك المجال مفتوحا لدراسات جديدة تجيب على الإشكالية المحورية والسؤال الأساس، هل فعلا محمد بن عبد الكريم الخطابي أسس كيانه السياسي على أساس الجمهورية الريفية ولم يفصح به آنذاك؟
لقد أعاد حراك الريف إحياء مظاهر التلاحم والتضامن والتآزر لدى المجتمع الريفي حيث استطاع ذ. سعدي توثيقها وتفكيكها فأعاد تركيبها، فصورها للقارئ بلغة بسيطة نعيد مشاهدتها معه في متن الكتاب بعمق تنفذ إلى الوجدان.
يؤكد الكاتب في دراسته على أن حراك الريف أيقظ في نفوس الساكنة قيم التضامن والتلاحم والوحدة، معززا ذلك باستجوابات ولقاءات ميدانية، عبر عن ذلك في الصفحة 91 من الكتاب بالقول :" أيقظ الحراك في نفوس أهل الريف شعورهم بالتضامن العفوي الحميمي حتى صار أقرب إلى تضامن ميكانيكي بلغة إميل دور كايم، وكأن أهل الريف تحول لعائلة واحدة، ما يمس أي فرد منهم يمس العائلة كلها، وكلما كان هناك تهديد وشيك وكبير إلا وتحول الكل لجسد واحد ومعه تختفي كل الانقسامات الإيديولوجية والسياسية."
يعلم الجميع من المتتبعين أن الطلائع الأولى للحراك كانت تتصارع حول الزعامة بين تيارين أساسين وتصورين فكريين، "الحركة الأمازيغية" التي يتناغم خطابها والعمق التاريخي للمنطقة والرافضة لخلق تنظيم لاحتواء الحراك، وترى في الحراك تنظيم مجتمعي قوي من جهة، وبين معتنقي الإيديولوجية الماركسية وما تبقى من مكونات اليسار الراديكالي الذي يبدو ظاهريا قد أفلت من عملية الاحتواء .
استطاع الحراك تجاوز ذلك الصراع في أوج الحركة الاحتجاجية وترك المجال مفتوحا للنقاش الفكري وظهور مفاهيم نحتها الحراك ستبقى ذاكرة للأجيال، كمصطلح " الخوزوماشوقية" ، "الدكاكين السياسية والحقوقية".
حاول الكاتب ملامسة هذا الصراع بالتركيز على بعض الآراء دون غيرها، فأورد كلاما لأحدهم يقول:" أنا ماركسي لينيني، ولدينا خلافات شديدة مع الآخرين، خصوصا الحركة الثقافية الأمازيغية داخل الحراك ولكن إذا حدث أي مكروه أو تهديد لأهلنا في الريف فسنرمي جانبا وننزع عنا إيديولوجيتنا وخلافاتنا مع الجميع لنذوذ وندافع عن شرفنا وكرامتنا". هذا الصراع الذي لم تفقه منه شيئا الأمهات والفلاحين البسطاء والشباب المراهق، تلاميذ المدارس وساكنة الجبال..، فئات شكلت النواة الصلبة للحراك استطاع قائده ناصر الزفزافي أن يدغدغ مشاعرها ويلم شمل الشتات بعيدا عن الخطابات الإيديولوجية والنظريات الفلسفية في الاقتصاد والدين والسياسة، بلغة تتسم بالبساطة أحيانا وبالقوة والصرامة والشدة أحيانا أخرى تمكن عبرها من إخراج الآلاف إلى الشوارع والحج إلى مدينة الحسيمة من المداشر والقرى البعيدة، قاطعين مسافات طويلة عبر الجبال والوديان والمسالك، تاركين أنشطتهم الفلاحية ليصبح الحراك من انشغالاتهم اليومية.
طبعا الدراسة هذه لا يمكن أن تلامس كل التفاصيل الدقيقة وإلا سيكون إخراجها في مجلدات، فقد رأينا كيف أسهمت الأمهات في الحراك برمي البصل من النوافذ لتخفيف تأثير مفعول الغازات المسيلة للدموع، وكيف فتحت الأبواب للمحتجين للاحتماء من ملاحقة قوى الأمن أو لإيواء القادمين من المدن الأخرى متضامنين، وهو تعبير عن حسن الضيافة والتقدير المتبادل.
كل من وكب الحراك لاحظ مظاهر التلاحم فعلى الطرق الرابطة بين القرى ومركز المدينة تجد قنينات الماء وضعت للقادمين للمشاركة في الاحتجاجات، في رمضان يشارك المحتجون وقوات الأمن الفطور جماعة، شباب/فتيان وفتيات/ نساء ورجال يشكلون دروعا بشرية وسلاسل لحماية مقرات الأمن ومختلف المؤسسات العمومية والممتلكات الخاصة، في الأحياء والساحات وبعد الإنتهاء مباشرة من المظاهرات يبادر الشباب جميعهم على عملية التنظيف إحياء منهم لقيم "ثاويزا" الراسخة عند الساكنة، هي قيم إنسانية راقية أعادها الحراك بقوة وساهمت في اشعاعه.
ملاحظات منهجية:
على المستوى المنهجي تطرح إشكالية توثيق بعض الدعامات التي يتم الاستعانة بها لدعم الأفكار الوارد في المتن من جهة أو إضافة لتوضيح مواضيع ذات صلة من جهة أخرى، من هذا المنطلق يكتسي توثيق الصور والخرائط وغيرها من الوثائق أهمية بالغة في مدى مصداقية الدراسة. لهذا فقد حرص ذ. سعدي في دراسته تنويع مصادره كالصور والأشعار والخرائط، رغم طغيان المواقع الالكترونية، نظرا لراهنية الموضوع وغياب دراسات سابقة والتحديات المرتبطة بالزمن وإشكالية دعم الأبحاث العلمية الميدانية بالمغرب بالنظر إلى حساسية موضوع البحث.
ركز الباحث بشكل كبير على "فتيان الراب" في معرض حديثه عن قوة الحراك وتوهج روحه التعبوية في محور خاص سماه ب حراك الريف: صرخة الغضب المدوية، وفي عنوان فرعي يحمل الرقم الترتيبي 17 موسوم ب: فتيان الراب بالحسيمة: الأنين الخانق للشباب بالحسيمة. سينتبه القارئ وهو يطالع الكتاب إلى الأهمية التي أولاها الكاتب لهذه الظاهرة بالريف، ظاهرة موسيقى الراب، أجد نفسي أختلف مع الكاتب حول أهمية هذه الفئة في التعبئة للحراك، بالرجوع إلى الكلمات وأصحابها، فلا يمكن تحميل هذه الفئة أكثر من حجمها، أغلبها من الشباب المراهق لم يتسوعب بعض الخطابات السياسية وتناقضات الحياة وتحدياتها، غالبا ما تكون كلمات الأغاني تحمل سبا وقذفا، كما اثارت إحدى الأغاني نقاشا حادا بعد سبها لإحدى القبائل والتنقيص من أهلها. لا يمكن التقليل من أهمية الموسيقى الإبداعية في حشد الجماهير ومعانقة همومها وإثارة الغضب، وموسيقى الراب هي أيضا كان لها دورها، فقد امتلكت أسلوبا لغويا يفهمه جيل من اليافعين تتراوح أعمارهم ما بين 14 سنة و20 سنة، هذا الجيل يتسم خطابه بالسخط والحدة ولغته تحمل رسائل غضب عميقة وتمرد عنيف كما يؤكد ذلك الباحث نفسه، وبالتالي فإعطاء أهمية كبيرة لهذه الفئة فيه مبالغة على حساب موسيقى وأشعار محلية تغرف من الذاكرة الجماعية للمنطقة كأشعار إزران مثلا، أورد الكاتب بعضها وساهم في توثيق الكثير منها وهو عمل يحسب للباحث في مجال التوثيق للموروث الثقافي بالريف.
استعان الكاتب في تناوله للحراك بتجارب مقارنة خلال الحديث عن الديناميات السياسية الجديدة للحركات الاحتجاجية الاجتماعية، فمن أمريكا اللاتينية يعتمدGeoffrey Players في دراسته المسومة ب: الحركات الاجتماعية في القرن 21. يصل الى خلاصة أن حراك الريف أفرز دينامية أقرب إلى ما يسمى ب" الحراكات الاجتماعية للساحات".
وفي تحليله لمفهوم "الركمجة" يقدم ذ سعدي قراءة موضوعية علمية دقيقة اذ يفكك المفهوم عبر تذكير القارئ للكتاب كما هو الشأن لشباب الجزائر، نظرا للتشابه الكبير بين حراك الجزائر وحراك الريف بحكم تقاسم نفس التاريخ والجغرافية والمصير المشترك، فقد "اعتبروا أن الحراك موجة عارمة تمتلك أسباب القوة الداخلية ولا تحتاج لمن يقويها أو يمارس عليها الوصاية وبالتالي ينبغي رفض الركوب على الحراك ورفض الأحزاب السياسية".
في ختام هذه الورقة نؤكد على أهمية دراسة محمد سعدي وقيمتها العلمية، هي إغناء للمكتبة الوطنية، ومساهمة في التوثيق وصيانة الذاكرة الجماعية بالريف، هو كتاب مفتوح يتضمن أسئلة وقضايا مطروحة على الباحثين ومصدرا أساسيا لدراسة موضوع حراك الريف.


تعليقات