القائمة الرئيسية

الصفحات

العمل الجمعوي بالريف بين المصداقية و الارتزاقية

العمل الجمعوي بالريف بين المصداقية و الارتزاقية

     قبل الحديث عن واقع العمل الجمعوي بالريف لا بأس أن نعطي ولو مفهوما وجيزة عنه، حيث أن العمل الجمعوي في جوهره عمل تطوعي إنساني نبيل يحمل في طياته معاني سامية كنكران الذات وبذل الغالي والنفيس من أجل تحقيق أهداف نبيلة تعود بالنفع على الفئات المستهدفة، و هو بالتالي يعد مجالا خصبا لتأطير الشباب نحو تحرير طاقاته و إمكانياته الابداعية لامتلاك الوعي بذواتهم و بطبيعة الأدوار الموكولة إليهم في معركة التغير و التقدم و الخروج من الدائرة المغلقة للفكر السلطوي و الظلامي المتحجر في اتجاه تفكير عقلاني.

   و المتتبع للعمل الجمعوي بالريف خلال العقود الاخيرة سيلاحظ أنه قد عرف زيغا و انحرافا واضحا عن مفهومه الحقيقي و أدواره و أهدافه النبيلة إلى درجة إصرار جمعيات عديدة على تمييعه وإفراغه من جوهره و محتواه لينتشر في جسده سرطان الفساد و لتصبح معه بعض الجمعيات صورة للفساد بامتياز، يمارس فيها المفسدون هوايتهم المفضلة للكسب غير المشروع بحيث أصبح العمل الجمعوي لديهم كدجاجة تبيض ذهبا خاصة عندما يتم استغلال ملفات حساسة  للتسول بها و الاغتناء السريع (الأمازيغية ، المرأة، البيئة، الطفولة، البطالة، التاريخ...) والنتيجة اذن أننا أصبحنا أمام مظهر جديد من مظاهر الفساد يمكن تسميته بالفساد الجمعوي، حيث أن خطورة ظاهرة هذا الفساد الذي ينخر بلادنا، يكمن في مأسسته وتحوله إلى سرطان ينهش في جسد المجتمع ويزرع فيه سلوكا انتفاعيا يضرب في الصميم القيم النبيلة والأصيلة للعمل الجمعوي ويهدمها.
   ولعل من بين التجليات المرضية لهذا الفساد الجمعوي تكمن في ظاهرة التناسل والتفريخ الذي يراد به تمييع المشهد الجمعوي وخلط الاوراق من أجل إفراغه من مضمونه وجوهره وأهدافه ومراميه النبيلة ، وبات تأسيس جمعية في بلادنا أسهل عمل يمكن القيام به إذ بفضل ظهير 15 نونبر 1958 والتعديلات المدخلة عليه و التي تسهل من إجراءات التأسيس، أصبح العمل الجمعوي تقريبا يشمل كل أوجه النشاط الاجتماعي والثقافي والفني و الرياضي... فكم من جمعية تأسست لتكون جزءا من امتدادات فكرية و ثقافية وتربوية وكشفية لهيئات سياسية أرادت من خلاله أن تشكل أذرعا لحملاتها الانتخابية ومعاركها الأخرى و هناك جمعيات يتم  تأسيسها بإيعاز من بعض المسؤولين المحسوبين على المجالس المنتخبة و السلطات المحلية والإقليمية لخدمة أهداف معينة ضاربة بذلك مصلحة المواطن وتنمية المجتمع عرض الحائط ، بحيث قد يكون الغرض من هذا التأسيس هو التضييق على جمعيات جادة و محاصرتها وحرمانها من حقها في تفعيل الأهداف التي أسست من أجلها و استغلال الفضاءات العمومية للتواصل مع منخريطيها، كما قد نجد جمعيات تتخذ من المنفعة العامة شعارا لها متخفية ضمن استراتيجيات ضيقة تخدم مصالح لمن أرادوا لها البقاء بعيدا عن المعايير الموضوعية .
 و إلى جانب هذا كله ، وبحكم تحكم وزارة الداخلية في منح الترخيص للجمعيات فقد استغلها بعض رجال السلطة كوسيلة من اجل زيادة مداخيلهم إلى الحد الذي دفع البعض منهم إلى المتاجرة بتسليم وصولات الايداع ، فالأدهى والأمر أن بعض مسؤولي السلطة استغلوا ضعف المستوى التعليمي لبعض أعضاء هذه الجمعيات، من اجل التحايل والاسترزاق على حسابهم، بحيث يبذل هؤلاء الانتهازيون جهودا كبيرة من اجل القضاء على أي محاولة لخلق عمل جمعوي بديل وجاد، بحيث نجد جمعيات تتأسس بإيعاز من مسؤولين بمؤسسات ومرافق حكومية لتعبيد الطريق نحو منحة أو غلاف مالي لمشروع تنشيطي أو تنموي يظل حبرا على ورق لا يرى النور أبدا.
     و من مظاهر فساد و انحرافات العمل الجمعوي أيضا هناك أمثلة كثيرة و متنوعة نسرد منها ( مثلا: نجد رئيس جمعية ثقافية، رئيسا لجمعية رياضة وأمينا للمال لجمعية المعاقين رغم انه ليس بمعاق ونائب رئيس جمعية أخرى و مستشارا في جمعية كذا وكذا، كما يمكن أن نجد جمعية ثقافية تنظم مهرجانا شعريا بالرغم من أن رئيسها لم ينظم في حياته قصيدة أو  بيتا شعريا واحدا ونجد جمعية تعطي دروسا في محو الأمية بالرغم من كون رئيستها أو رئيسها اميا بامتياز والأمثلة كثيرة ...) و هناك أيضا جمعيات تغيب في تسيير أجهزتها الممارسات الديمقراطية حيث تحولت إلى جمعيات شبه منغلقة غير مفتوحة في وجه العموم و يتحكم في تسييرها نفس الأشخاص الذين يتدبرون شؤونها بعقلية الحزب الوحيد ، إذ لا تداول على مراكز المسؤولية ، والرأي المخالف غير مرحب به من طرف الأعضاء  عبر آلية الإقصاء من موقع المسؤولية ، بل و منها ما لا تعرف إلا باسم رئيس واحد و أوحد، متاجرين بذلك في هموم ومآسي المواطنين عن طريق أنشطة تبدو في ظاهرها تنموية ترصد لها مبالغ مالية مهمة غالبا ما تصرف في ولائم عمل تخفي وراءها أهداف تذر على أصحابها والمتواطئين معهم أرباحا مادية ومعنوية كثيرة.
   هذه بعض مظاهر انحرافات و فساد العمل الجمعوي التي حاولنا استحضارها لنربطها بواقع تطور الاحداث بمنطقتنا حيث الأن لا حديث إلا على ما أقدمت عليه بعض الفعاليات الجمعوية من ممارسات وسلوكات مشبوهة و مشينة و اتهامات مغرضة في حق أبناء المنطقة  باصدار بيانات مفبركة ضد حراك شعبي راق و حضاري يروم رفع التهميش و الحكرة و الاقصاء عن المنطقة الذي قام نتيجة حدث مأساوي تمثل في استشهاد أحد شباب المنطقة بطريقة بشعة مطحونا في شاحنة للنفايات، هذا الحدث شكل شحنة قوية لنهوظ أبناء المنطقة في إطار حراك شعبي و غضب عارم عن ما آلت إليه المنطقة من وضع كارثي على جميع المستويات حيث ارتفاع مهول في الأسعار و زيادة مخيفة في نسبة البطالة ناهيك عن تدني الخدمات الصحية و ركود إقتصادي واضح  دفع بالعديد من التجار إلى إعلان افلاسهم و إغلاق محلاتهم التجارية أو الهجرة إلى مناطق أخرى أو خارج البلاد ...
  وقد شكل هذا الحدث فرصة تاريخية لكل الريفيين الأحرار للتفكير بعمق و هدوء و يقضة بعيدا عن الحسابات والمزايدات السياسوية الضيقة و تجاوز السطحية في التعامل مع الأحداث و المستجدات التي تقع بالمنطقة  و الارتقاء بالفعل النضالي الى مستويات قادرة على إيجاد وتفعيل آليات ضاغطة لتحقيق مطالب عادلة و مشروعة و مجابهة سياسة الاحتواء والإختراق و الترهيب و التفتين و كل من يحاول بعثرة الاوراق و التشكيك والتشويش و استصغار من طموحات و قدرات الشباب و صدق نضاليتهم و اخلاصهم لقضاياهم المصيرية و لدماء الشهداء التي سالت من اجل الوصول إلى تحقيق ديمقراطية حقيقية قوامها الحرية و الكرامة و المساواة و العدالة الاجتماعية .
 و عليه، و بما أن المنطقة بهذا الجيل الجديد من المناضلين تمر بمرحلة مهمة في تاريخ النضال و الكفاح ضد الحكرة و الاستبداد، استوجب  من الكل التبصر و الحكمة و اليقظة و الوقوف بجانب هذا الجيل الطامح إلى تغيير حقيقي و الوقوف في وجه كل المحولات التي تقوم بها اجهزة  الدولة الإستخباراتية عبر انجاز و تنفيذ سيناريوهات مختلفة و متنوعة لتحوير وتحريف نضالات الحراك الشعبي بمباركة أذياله من (أحزاب سياسية) بكل توجهاتهم و بعض الجمعيات المدنية المشبوهة التي سعت و تسعى إلى استصغار هذه النضالات الجماهيرية الحضارية الراقية في محاولة لاحتوائها و فرض الوصاية عليها بهدف الحفاظ على مصالحها الشخصية التي تحصل عليها عن طريق سياسة الريع والإمتيازات المختلفة، وأعتقد جازما أنه لن تنطلي خدع و تشويش المخزن و أذياله على كل هؤلاء المناضلين الميدانيين المخلصين لقضاياهم المصيرية ولدماء الشهداء التي سالت  مؤمنين بروح النضال والتضحية في سبيل الحرية و الكرامة والعدالة الإجتماعية في وطن متحرر ديموقراطي متسع لجميع أبنائه.

وقد اتضحت جليا محاولات المخزن الخسيسة  وأذياله في الضرب و الانقضاض على الحراك السلمي الراقي من خلال تسخير مجموعة من الهيئات و صرف و تبديد أموال كثيرة لإرشاء و شراء ذوي الضمائر الأمارة بالسوء تحت يافطة دعم الجمعيات أو التعاونيات لتنظيم مختلف الأنشطة  إلى درجة فبركة معرض وهمي بساحة الشهداء لاحتلاله و بالتالي  توفير  " الغطاء القانوني" للمخزن كي يعسكر المدينة ويطارد نشطاء الحراك الشعبي في ساحات وشوارع المدينة، هذه الجمعيات أو الكائنات المفترسة التي كانت تثقل مسامعنا و تتبجح بخدمة الريف والسعي إلى تنميته وإعماره ، بهذه الأساليب و السلوكات الانتهازية و البئيسة تقدم خدمات جليلة للمخزن و تدفع بالريف أكثر في اتجاه إدامة الواقع المزري و الكارثي، و عليه فإنه لن نلتزم الصمت و التردد في فضح كل من سوّلت له نفسه المتاجرة بالريف وإحراق خيرة أبنائه، و هنا على المخزن أن يدرك جيدا، أن هناك حدثا مأساويا دراميا استشهد على إثره إنسان بريء  طحنا في حاوية للنفايات وهو يدافع عن رزقه، وأن هناك حراك شعبي له ذاكرة أليمة معه ، يناضل من أجل قضايا حقوقية ظلت عالقة منذ الإستعمار إلى الآن، و له مطالب إجتماعية و اقتصادية عادلة ومشروعة  يطالب بها كل مواطن حر، بالإضافة إلى هذا كله فقد خرج  الآلاف من المواطنين للشوارع في مسيرات و مظاهرات حاشدة  سلمية و حضارية راقية أبهرت كل العالم، هذا ما يجب الاشتغال عليه و استنفار كل الطاقات والإمكانيات لإيجاد و تقديم إجابات واقعية و ملموسة تستجب لتطلعات و مستقبل أبناء المنطقة، أما ما دون ذلك فإنه، يبقى مجرد إشاعات و مغالطات الرهان عليها لنسف الحراك لن يأتي إلا بنتائج عكسية، والتاريخ سيبقى شاهدا عليها.
   إن الهدف من حديثا عن هذا الواقع المزري للعمل الجمعوي ببلادنا، ليس هو الدعوة إلى الابتعاد أو النفور منه أو انتقاصا من الدور الاساسي الذي يمكن أن تلعبه الجمعيات في تنشئة وتطوير وعي افراد المجتمع أو نفي وجود جمعيات جادة و فاعلة، بل العكس، فهناك جمعيات جادة تبذل مجهودات جبارة و تقدم خدمات جليلة للمجتمع بعملها التطوعي و الانساني بحيث تصمد أمام كل المضايقات والإغراءات والانحرافات، متشبثة بقيم العمل الجمعوي وفلسفته ومراميه الراقية والنبيلة التي حمتها تضحيات مناضلات ومناضلين شرفاء يعطون لهذا العمل أكثر مما يأخذون منه على مر الأزمان والعقود ، جمعيات تحترم الممارسة الديمقراطية وتؤسس لها بإصرار وصمود وتفان حتى نكران الذات.
      فالغرض إذن من كتابة هذه السطور، هو تسليط الضوء على بعض الممارسات المشينة و المشبوهة التي ترافق العمل الجمعوي ببلادنا ، و ذلك حتى يتسنى لنا المساهمة كل من موقعه في تصحيح مساره و تطهيره من الطفيليات و الفيروسات الآدمية المفترسة التي يبقى همها الوحيد هو الاسترزاق ونهب المال تحت غطاء جمعوي وانتهاز الفرص لتسلق المراتب وخدمة أفراد وتطلعات مَرَضية ... فهل يستيقظ في يوم من الأيام ضمير هذه الجمعيات من سباته العميق ويقوم بدوره الانساني النبيل في خدمة المجتمع ؟ ومتى يعلم المفسدون بان حبل الكذب قصير ومصير الفساد إلى الهاوية لا محالة..؟
خلاصة القول : يبقى الأمل معقود على الجيل الجديد لإعادة المصداقية لقيم ونبل أهداف ومرامي العمل الجمعوي و لوضع حد لهذا الريع السرطاني الذي لا ينخر مقومات العمل الجمعوي فحسب، بل ينخر قيم المجتمع ويهدمها ويسمم إحدى أهم خلاياها التي هي الجمعيات.



خالد مييس نريف

تعليقات

التنقل السريع